الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ رَبِّ يَسِّرْ الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: “ الْحَمْدُ لِلَّهِ “، الْحَمْدُ الْكَامِلُ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ دُونَ جَمِيعِ الْأَنْدَادِ وَالْآلِهَةِ، وَدُونَ مَا سِوَاهُ مِمَّا تَعْبُدُهُ كَفَرَةُ خَلْقِهِ مِنَ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ. وَهَذَا كَلَامٌ مَخْرَجُهُ مَخْرَجُ الْخَبَرِ يُنْحَى بِهِ نَحْوَ الْأَمْرِ. يَقُولُ: أَخْلِصُوا الْحَمْدَ وَالشُّكْرَ لِلَّذِي خَلَقَكُمْ، أَيُّهَا النَّاسُ، وَخَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَلَا تُشْرِكُوا مَعَهُ فِي ذَلِكَ أَحَدًا أَوْ شَيْئًا، فَإِنَّهُ الْمُسْتَوْجِبُ عَلَيْكُمُ الْحَمْدَ بِأَيَادِيهِ عِنْدَكُمْ وَنِعَمِهِ عَلَيْكُمْ، لَا مَنْ تَعْبُدُونَهُ مَنْ دُونِهِ، وَتَجْعَلُونَهُ لَهُ شَرِيكًا مِنْ خَلْقِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَصْلَ بَيْنَ مَعْنَى “ الْحَمْدِ وَ“ الشُّكْرِ “ بِشَوَاهِدِهِ فِيمَا مَضَى قَبْلُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَأَظْلَمَ اللَّيْلَ، وَأَنَارَ النَّهَارَ، كَمَا:- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: “ {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} “، قَالَ: الظُّلُمَاتُ ظُلْمَةُ اللَّيْلِ، وَالنُّورُ نُورُ النَّهَارِ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: أَمَّا قَوْلُهُ: “ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} “، فَإِنَّهُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ قَبْلَ الْأَرْضِ، وَالظُّلْمَةَ قَبْلَ النُّورِ، وَالْجَنَّةَ قَبْلَ النَّارِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ إِذًا: “ جَعَلَ “. قِيلَ: إِنِ الْعَرَبَ تَجْعَلُهَا ظَرْفًا لِلْخَبَرِ وَالْفِعْلِ فَتَقُولُ: “ جَعَلْتُ أَفْعَلُ كَذَا “، وَ“ جَعَلْتُ أَقُومُ وَأَقْعُدُ “، تَدُلُّ بِقَوْلِهَا “ جَعَلْتُ “ عَلَى اتِّصَالِ الْفِعْلِ، كَمَا تَقُولُ “ عَلَّقْتُ أَفْعَلُ كَذَا “ لَا أَنَّهَا فِي نَفْسِهَا فِعْلٌ. يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ الْقَائِلِ: “ جَعَلْتُ أَقُومُ “، وَأَنَّهُ لَا جَعْلَ هُنَاكَ سِوَى الْقِيَامِ، وَإِنَّمَا دَلَّ بِقَوْلِهِ: “ جَعَلْتُ “ عَلَى اتِّصَالِ الْفِعْلِ وَدَوَامِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَزَعَمْتَ أَنَّكَ سَوْفَ تَسْلُكُ فَارِدًا *** وَالْمَوْتُ مُكْتَنِعٌ طَرِيقَيْ قَادِرِ فَاجْعَلْ تَحَلَّلْ مِنْ يَمِينِكَ إِنَّمَا *** حِنْثٌ الْيَمِينِ عَلَى الْأَثِيمِ الْفَاجِرِ يَقُولُ: “ فَاجْعَلْ تَحَلَّلْ “، بِمَعْنَى: تَحَلَّلْ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ لَا أَنَّ هُنَاكَ جَعْلًا مِنْ غَيْرِ التَّحْلِيلِ. فَكَذَلِكَ كَلُّ “ جَعْلٍ “ فِي الْكَلَامِ، إِنَّمَا هُوَ دَلِيلٌ عَلَى فِعْلٍ لَهُ اتِّصَالٌ، لَا أَنْ لَهُ حَظًّا فِي مَعْنَى الْفِعْلِ. فَقَوْلُهُ: “ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ “، إِنَّمَا هُوَ: أَظْلَمَ لَيْلَهُمَا، وَأَنَارَ نَهَارَهُمَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ، مُعَجِّبًا خَلْقَهُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ كَفَرَةِ عِبَادِهِ، وَمُحْتَجًّا عَلَى الْكَافِرِينَ: إِنَّ الْإِلَهَ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْكُمْ- أَيُّهَا النَّاسُ- حَمْدُهُ، هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، الَّذِي جَعَلَ مِنْهُمَا مَعَايِشَكُمْ وَأَقْوَاتَكُمْ، وَأَقْوَاتَ أَنْعَامِكُمُ الَّتِي بِهَا حَيَاتُكُمْ. فَمِنَ السَّمَاوَاتِ يَنْزِلُ عَلَيْكُمُ الْغَيْثُ، وَفِيهَا تَجْرِي الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِاعْتِقَابٍ وَاخْتِلَافٍ لِمَصَالِحِكُمْ. وَمِنَ الْأَرْضِ يَنْبُتُ الْحَبُّ الَّذِي بِهِ غِذَاؤُكُمْ، وَالثِّمَارُ الَّتِي فِيهَا مَلَاذُّكُمْ، مَعَ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي فِيهَا مَصَالِحِكُمْ وَمَنَافِعِكُمْ بِهَا وَاَلَّذِينَ يَجْحَدُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ خَلْقِ ذَلِكَ لَهُمْ وَلَكُمْ، أَيُّهَا النَّاسُ “ بِرَبِّهِمْ “، الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ وَأَحْدَثَهُ “ يَعْدِلُونَ “، يَجْعَلُونَ لَهُ شَرِيكًا فِي عِبَادَتِهِمْ إِيَّاهُ، فَيَعْبُدُونَ مَعَهُ الْآلِهَةَ وَالْأَنْدَادَ وَالْأَصْنَامَ وَالْأَوْثَانَ، وَلَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ شَرِكَهُ فِي خَلْقِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا فِي إِنْعَامِهِ عَلَيْهِمْ بِمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ، بَلْ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِذَلِكَ كُلُّهُ، وَهُمْ يُشْرِكُونَ فِي عِبَادَتِهِمْ إِيَّاهُ غَيْرَهُ. فَسُبْحَانُ اللَّهُ مَا أَبْلَغَهَا مِنْ حُجَّةٍ، وَأَوْجَزَهَا مِنْ عِظَةٍ، لِمَنْ فَكَّرَ فِيهَا بِعَقْلٍ، وَتَدَبَّرَهَا بِفَهْمٍ! وَلَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا فَاتِحَةُ التَّوْرَاةِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْعَمِّيُّ، عَنْ أَبِي عِِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ كَعْبٍ قَالَ: فَاتِحَةُ التَّوْرَاةِ فَاتِحَةُ “ الْأَنْعَامِ “: “ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} “. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ حُبَابٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي عِِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ كَعْبٍ، مِثْلَهُ وَزَادَ فِيهِ: وَخَاتِمَةُ التَّوْرَاةِ خَاتِمَةُ “ هُودٍ “. يُقَالُ مِنْ مُسَاوَاةِ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ: “ عَدَلْتُ هَذَا بِهَذَا “، إِذَا سَاوَيْتُهُ بِهِ، “ عَدْلًا “. وَأَمَّا فِي الْحُكْمِ إِذَا أَنْصَفْتُ فِيهِ، فَإِنَّكَ تَقُولُ: “ عَدَلْتُ فِيهِ أَعْدِلُ عَدْلًا “. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: “ يَعْدِلُونَ “، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي ابْنُ مُحَمَّدٍ عَمْرٌو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: “ يَعْدِلُونَ “، قَالَ: يُشْرِكُونَ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيمَنْ عُنِيَ بِذَلِكَ: فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عُنِيَ بِهِ أَهْلُ الْكِتَابِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ الْقُمِّيُّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنِ ابْنِ أَبْزَي قَالَ: جَاءَهُ رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ يَقْرَأُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ: “ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} “، قَالَ لَهُ: أَلَيْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ؟ قَالَ: بَلَى! قَالَ: وَانْصَرَفَ عَنْهُ الرَّجُلُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: يَا ابْنُ أَبْزَى، إِنَّ هَذَا قَدْ أَرَادَ تَفْسِيرَ هَذِهِ غَيْرَ هَذَا! إِنَّهُ رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ ! فَقَالَ: رَدُّوهُ عَلَيَّ. فَلَمَّا جَاءَهُ قَالَ: هَلْ تَدْرِي فِيمَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ؟ قَالَ: لَا! قَالَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، اذْهَبْ، وَلَا تَضَعْهَا عَلَى غَيْرِ حَدِّهَا. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عُنِيَ بِهَا الْمُشْرِكُونَ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: “ {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} “، قَالَ: [هَؤُلَاءِ: أَهْلُ صُرَاحِيهِ]. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: “ {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} “، قَالَ: هُمُ الْمُشْرِكُونَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: “ {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} “، قَالَ: الْآلِهَةُ الَّتِي عَبَدُوهَا، عَدَلُوهَا بِاللَّهِ. قَالَ: وَلَيْسَ لِلَّهِ عِدْلٌ وَلَا نِدٌ، وَلَيْسَ مَعَهُ آلِهَةٌ، وَلَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَخْبَرَ أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ، فَعَمَّ بِذَلِكَ جَمِيعَ الْكُفَّارِ، وَلَمْ يُخَصِّصْ مِنْهُمْ بَعْضًا دُونَ بَعْضٍ. فَجَمِيعُهُمْ دَاخِلُونَ فِي ذَلِكَ: يَهُودُهُمْ، وَنَصَارَاهُمْ، وَمَجُوسُهُمْ، وَعَبَدَةُ الْأَوْثَانِ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ مِنْ سَائِرِ أَصْنَافِ الْكُفْرِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: “هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ“، أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَأَظْلَمَ لَيْلَهُمَا وَأَنَارَ نَهَارَهُمَا، ثُمَّ كَفَرَ بِهِ مَعَ إِنْعَامِهِ عَلَيْهِمُ الْكَافِرُونَ، وَعَدَلُوا بِهِ مَنْ لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ. هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ، أَيُّهَا النَّاسُ، مِنْ طِينٍ. وَإِنَّمَا يَعْنِي بِذَلِكَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَنَّ النَّاسَ وَلَدُ مَنْ خَلَقَهُ مِنْ طِينٍ، فَأُخْرِجَ ذَلِكَ مَخْرَجَ الْخِطَابِ لَهُمْ، إِذْ كَانُوا وَلَدَهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: “ {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ} “، بَدْءُ الْخَلْقِ، خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مِنْ طِينٍ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: “ {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ} “، قَالَ: هُوَ آدَمُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: أَمَّا “ خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ “، فَآدَمُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو تُمَيْلَةَ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ قَالَ: خَلَقَ آدَمَ مِنْ طِينٍ، وَخَلَقَ النَّاسَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: “ {خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ} “، قَالَ: خَلَقَ آدَمَ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ خَلَقَنَا مِنْ آدَمَ حِينَ أَخَذَنَا مِنْ ظَهْرِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى قَوْلِهِ: “ {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا} “، ثُمَّ قَضَى لَكُمْ- أَيُّهَا النَّاسُ- “ أَجَلًا “. وَذَلِكَ مَا بَيْنَ أَنْ يُخْلَقَ إِلَى أَنْ يَمُوتَ “ {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} “، وَذَلِكَ مَا بَيْنَ أَنْ يَمُوتَ إِلَى أَنْ يُبْعَثَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ وَهَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ قَالَا حَدَّثَنَا وَكِيعٌ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: “ {قَضَى أَجَلًا} “، قَالَ: مَا بَيْنَ أَنْ يُخْلَقَ إِلَى أَنْ يَمُوتَ “ {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} “، قَالَ: مَا بَيْنَ أَنْ يَمُوتَ إِلَى أَنْ يُبْعَثَ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: “ {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} “، كَانَ يَقُولُ: أَجَلُ حَيَاتِكَ إِلَى أَنْ تَمُوتَ، وَأَجَلُ مَوْتِكَ إِلَى أَنْ تُبْعَثَ. فَأَنْتَ بَيْنَ أَجَلَيْنِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو تُمَيْلَةَ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ: “ {قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} “، قَالَ: قَضَى أَجَلَ الْمَوْتِ، وَكُلُّ نَفْسٍ أَجَلُهَا الْمَوْتُ. قَالَ: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا “ {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} “، يَعْنِي: أَجْلُ السَّاعَةِ، ذَهَابُ الدُّنْيَا، وَالْإِفْضَاءُ إِلَى اللَّهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: ثُمَّ قَضَى الدُّنْيَا، وَعِنْدَهُ الْآخِرَةُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: “ أَجَلًا “، قَالَ: الدُّنْيَا “ {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} “، الْآخِرَةُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: “ {قَضَى أَجَلًا} “، قَالَ: الْآخِرَةُ عِنْدَهُ “ {وَأَجَلٌ مُسَمًّى} “، الدُّنْيَا. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: “ أَجَلًا “، قَالَ: الْآخِرَةُ عِنْدَهُ “ وَأَجَلٌ مُسَمًّى “، قَالَ: الدُّنْيَا. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: “ أَجَلًا “، قَالَ: الْآخِرَةُ عِنْدَهُ “ وَأَجَلٌ مُسَمًّى “، قَالَ: الدُّنْيَا. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ وَالْحَسَنِ: “ {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} “، قَالَا قَضَى أَجَلَ الدُّنْيَا، مِنْ حِينِ خَلَقَكَ إِلَى أَنْ تَمُوتَ “ {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} “، يَوْمُ الْقِيَامَةِ. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ: “ {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} “، قَالَ: قَضَى أَجْلَ الدُّنْيَا “ {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} “، قَالَ: هُوَ أَجَلُ الْبَعْثِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ: “ {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا} “، قَالَ: الْمَوْتَ “ {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} “، الْآخِرَةُ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ وَالْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: “ {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} “، قَالَا قَضَى أَجَلَ الدُّنْيَا، مُنْذُ يَوْمِ خُلِقَتْ إِلَى أَنْ تَمُوتَ “ {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} “، يَوْمُ الْقِيَامَةِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ وَابْنُ حُمَيْدٍ قَالَا حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: “ {قَضَى أَجَلًا} “، قَالَ: أَجَلَ الدُّنْيَا “ {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} “، قَالَ: الْبَعْثُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: “ {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} “، يَعْنِي: أَجَلَ الْمَوْتِ “ وَالْأَجَلُ الْمُسَمَّى “، أَجَلُ السَّاعَةِ وَالْوُقُوفِ عِنْدَ اللَّهِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: “ {قَضَى أَجَلًا} “، قَالَ: أَمَّا “ قَضَى أَجَلًا “، فَأَجَلَ الْمَوْتِ “ {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} “، يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ بِمَا:- حَدَّثَنِي بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: “ {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} “، قَالَ: أَمَّا قَوْلُهُ: “ قَضَى أَجَلًا “، فَهُوَ النَّوْمُ، تُقْبَضُ فِيهِ الرُّوحُ، ثُمَّ تَرْجِعُ إِلَى صَاحِبِهَا حِينَ الْيَقَظَةِ “ وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ “، هُوَ أَجَلُ مَوْتِ الْإِنْسَانِ. وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا:- حَدَّثَنِي بِهِ يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَ ابْنُ وَهْبٍ فِي قَوْلِهِ: “ {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} “، قَالَ: خَلَقَ آدَمَ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ خَلَقَنَا مِنْ آدَمَ، أَخَذَنَا مِنْ ظَهْرِهِ، ثُمَّ أَخَذَ الْأَجَلَ وَالْمِيثَاقَ فِي أَجَلٍ وَاحِدٍ مُسَمًّى فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ: ثُمَّ قَضَى أَجَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا “ {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} “، وَهُوَ أَجَلُ الْبَعْثِ عِنْدَهُ. وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ نَبَّهَ خَلْقَهُ عَلَى مَوْضِعِ حُجَّتِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فَقَالَ لَهُمْ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِ الَّذِي يَعْدِلُ بِهِ كُفَّارُكُمُ الْآلِهَةَ وَالْأَنْدَادَ، هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَابْتَدَأَكُمْ وَأَنْشَأَكُمْ مِنْ طِينٍ، فَجَعَلَكُمْ صُوَرًا أَجْسَامًا أَحْيَاءً، بَعْدَ إِذْ كُنْتُمْ طِينًا جَمَادًا، ثُمَّ قَضَى آجَالَ حَيَاتِكُمْ لِفَنَائِكُمْ وَمَمَاتِكُمْ، لِيُعِيدَكُمْ تُرَابًا وَطِينًا كَاَلَّذِي كُنْتُمْ قَبْلَ أَنْ يُنْشِئَكُمْ وَيَخْلُقَكُمْ، وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ لِإِعَادَتِكُمْ أَحْيَاءً وَأَجْسَامًا كَاَلَّذِي كُنْتُمْ قَبْلَ مَمَاتِكُمْ. وَذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}، [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 28].
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ثُمَّ أَنْتُمْ تَشُكُّونَ فِي قُدْرَةِ مَنْ قَدَرَ عَلَى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَإِظْلَامِ اللَّيْلِ وَإِنَارَةِ النَّهَارِ، وَخَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ حَتَّى صَيَّرَكُمْ بِالْهَيْئَةِ الَّتِي أَنْتُمْ بِهَا عَلَى إِنْشَائِهِ إِيَّاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَمَاتِكُمْ وَفَنَائِكُمْ، وَإِيجَادِهِ إِيَّاكُمْ بَعْدَ عَدَمِكُمْ. وَ “ الْمِرْيَةُ “ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، هِيَ الشَّكُّ. وَقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ بِشَوَاهِدِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فِيمَا مَضَى قَبْلُ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَقَدْ:- حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: “ {ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} “، قَالَ: الشَّكُّ. قَالَ: وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ: {فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ} [سُورَةُ هُودٍ: 17]، قَالَ: فِي شَكٍّ مِنْهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: “ {ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} “، بِمِثْلِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ الَّذِي لَهُ الْأُلُوهَةُ الَّتِي لَا تَنْبَغِي لِغَيْرِهِ، الْمُسْتَحِقَّ عَلَيْكُمْ إِخْلَاصَ الْحَمْدِ لَهُ بِآلَائِهِ عِنْدَكُمْ- أَيُّهَا النَّاسُ- الَّذِي يَعْدِلُ بِهِ كُفَّارُكُمْ مَنْ سِوَاهُ، هُوَ اللَّهُ الَّذِي هُوَ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ. يَقُولُ: فَرَبُّكُمُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ عَلَيْكُمُ الْحَمْدَ، وَيَجِبُ عَلَيْكُمْ إِخْلَاصُ الْعِبَادَةِ لَهُ، هُوَ هَذَا الَّذِي صِفَتُهُ، لَا مَنْ لَا يَقْدِرُ لَكُمْ عَلَى ضُرٍّ وَلَا نَفْعٍ، وَلَا يَعْمَلُ شَيْئًا، وَلَا يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ سُوءًا أُرِيدَ بِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: “ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ “، يَقُولُ: وَيَعْلَمُ مَا تَعْمَلُونَ وَتَجْرَحُونَ، فَيُحْصِي ذَلِكَ عَلَيْكُمْ لِيُجَازِيَكُمْ بِهِ عِنْدَ مَعَادِكُمْ إِلَيْهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمَا تَأْتِي هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ- الَّذِينَ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ أَوْثَانَهُمْ وَآلِهَتَهُمْ- “ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ “، يَقُولُ: حُجَّةٌ وَعَلَامَةٌ وَدَلَالَةٌ مِنْ حُجَجِ رَبِّهِمْ وَدَلَالَاتِهِ وَأَعْلَامِهِ عَلَى وَحْدَانِيِّتِهِ، وَحَقِيقَةِ نُبُوَّتِكَ، يَا مُحَمَّدُ، وَصِدْقِ مَا أَتَيْتَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِي “ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ “، يَقُولُ: إِلَّا أَعْرَضُوا عَنْهَا، يَعْنِي عَنِ الْآيَةِ، فَصَدُّوا عَنْ قَبُولِهَا وَالْإِقْرَارِ بِمَا شَهِدَتْ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَدَلَّتْ عَلَى صِحَّتِهِ، جَهْلًا مِنْهُمْ بِاللَّهِ، وَاغْتِرَارًا بِحِلْمِهِ عَنْهُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَقَدْ كَذَّبَ هَؤُلَاءِ الْعَادِلُونَ بِاللَّهِ، الْحَقَّ لَمَّا جَاءَهُمْ، وَذَلِكَ “ الْحَقُّ “، هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَّبُوا بِهِ، وَجَحَدُوا نُبُوَّتَهُ لَمَّا جَاءَهُمْ. قَالَ اللَّهُ لَهُمْ مُتَوَعِّدًا عَلَى تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ وَجُحُودِهِمْ نُبُوَّتَهُ: سَوْفَ يَأْتِي الْمُكَذِّبِينَ بِكَ، يَا مُحَمَّدُ، مِنْ قَوْمِكَ وَغَيْرِهِمْ “ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ “، يَقُولُ: سَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَخْبَارُ اسْتِهْزَائِهِمْ بِمَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ مِنْ آيَاتِي وَأَدِلَّتِي الَّتِي آتَيْتَهُمْ. ثُمَّ وَفَّى لَهُمْ بِوَعِيدِهِ لَمَّا تَمَادَوْا فِي غَيِّهِمْ، وَعَتَوْا عَلَى رَبِّهِمْ، فَقَتَلْتَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ بِالسَّيْفِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَمْ يَرَ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبُونَ بِآيَاتِي، الْجَاحِدُونَ نُبُوَّتَكَ، كَثْرَةَ مَنْ أَهْلَكْتُ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ وَهُمُ الْأُمَمُ الَّذِينَ وَطَّأْتُ لَهُمُ الْبِلَادَ وَالْأَرْضَ تَوْطِئَةً لَمْ أُوَطِّئْهَا لَهُمْ، وَأَعْطَيْتُهُمْ فِيهَا مَا لَمْ أُعْطِهِمْ؟ كَمَا:- حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: “ {مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} “، يَقُولُ: أَعْطَيْنَاهُمْ مَا لَمْ نُعْطِكُمْ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: أُمْطِرَتْ فَأَخْرَجَتْ لَهُمُ الْأَشْجَارُ ثِمَارَهَا، وَأَعْطَتْهُمُ الْأَرْضُ رَيْعَ نَبَاتِهَا، وَجَابُوا صُخُورَ جِبَالِهَا، وَدَرَّتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ بِأَمْطَارِهَا، وَتَفَجَّرَتْ مِنْ تَحْتِهِمْ عُيُونُ الْمِيَاهِ بِيَنَابِيعِهَا بِإِذْنِي، فَغَمَطُوا نِعْمَةَ رَبِّهِمْ، وَعَصَوْا رَسُولَ خَالِقِهِمْ، وَخَالَفُوا أَمْرَ بَارِئِهِمْ، وَبَغَوْا حَتَّى حَقَّ عَلَيْهِمْ قَوْلِي، فَأَخَذْتُهُمْ بِمَا اجْتَرَحُوا مِنْ ذُنُوبِهِمْ، وَعَاقَبْتُهُمْ بِمَا اكْتَسَبَتْ أَيْدِيهِمْ، وَأَهْلَكْتُ بَعْضَهُمْ بِالرَّجْفَةِ، وَبَعْضَهُمْ بِالصَّيْحَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: “ {وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا} “، الْمَطَرَ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: “ مِدْرَارًا “، غَزِيرَةً دَائِمَةً “ {وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} “، يَقُولُ: وَأَحْدَثْنَا مِنْ بَعْدِ الَّذِينَ أَهْلَكْنَاهُمْ قَرْنًا آخَرِينَ، فَابْتَدَأْنَا سِوَاهُمْ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا وَجْهُ قَوْلِهِ: “ {مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} “؟ وَمَنِ الْمُخَاطَبُ بِذَلِكَ؟ فَقَدْ ابْتَدَأَ الْخَبَرَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ عَنْ قَوْمٍ غَيَبٍ بِقَوْلِهِ: “ {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} “؟ قِيلَ: إِنَّالْمُخَاطَبَ بِقَوْلِهِ: “ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ “، هُوَ الْمُخْبِرُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: “ {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} “، وَلَكِنْ فِي الْخَبَرِ مَعْنَى الْقَوْلِ وَمَعْنَاهُ: قُلْ، يَا مُحَمَّدُ، لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ. وَالْعَرَبُ إِذَا أَخْبَرَتْ خَبَرًا عَنْ غَائِبٍ، وَأَدْخَلَتْ فِيهِ “ قَوْلًا “، فَعَلَتْ ذَلِكَ، فَوَجَّهَتِ الْخَبَرَ أَحْيَانًا إِلَى الْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ، وَأَحْيَانًا إِلَى الْخِطَابِ، فَتَقُولُ: “ قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ: مَا أَكْرَمَهُ “، وَ“ قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ: مَا أَكْرَمَكَ “، وَتُخْبِرُ عَنْهُ أَحْيَانًا عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ، ثُمَّ تَعُودُ إِلَى الْخِطَابِ. وَتُخْبِرُ عَلَى وَجْهِ الْخِطَابِ لَهُ، ثُمَّ تَعُودُ إِلَى الْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ. وَذَلِكَ فِي كَلَامِهَا وَأَشْعَارِهَا كَثِيرٌ فَاشٍ. وَقَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَ ذَلِكَ فِيمَا مَضَى، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ يَقُولُ فِي ذَلِكَ: كَأَنَّهُ أَخْبَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ خَاطَبَهُ مَعَهُمْ. وَقَالَ: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [سُورَةُ يُونُسَ: 22]، فَجَاءَ بِلَفْظِ الْغَائِبِ، وَهُوَ يُخَاطِبُ، لِأَنَّهُ الْمُخَاطَبُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ بِرَبِّهِمُ الْأَوْثَانَ وَالْآلِهَةَ وَالْأَصْنَامَ. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَكَيْفَ يَتَفَقَّهُونَ الْآيَاتِ، أَمْ كَيْفَ يَسْتَدِلُّونَ عَلَى بُطْلَانٍ مَا هُمْ عَلَيْهِ مُقِيمُونَ مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَجُحُودِ نُبُوَّتِكَ، بِحُجَجِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ وَأَدِلَّتِهِ، وَهُمْ لِعِنَادِهِمُ الْحَقَّ وَبُعْدِهِمْ مِنَ الرُّشْدِ، لَوْ أَنْزَلْتُ عَلَيْكَ، يَا مُحَمَّدُ، الْوَحْيَ الَّذِي أَنْزَلْتُهُ عَلَيْكَ مَعَ رَسُولِي، فِي قِرْطَاسٍ يُعَايِنُونَهُ وَيَمَسُّونَهُ بِأَيْدِيهِمْ، وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ وَيَقْرَءُونَهُ مِنْهُ، مُعَلَّقًا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، بِحَقِيقَةِ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ، وَصِحَّةِ مَا تَأْتِيهِمْ بِهِ مِنْ تَوْحِيدِي وَتَنْزِيلِي، لَقَالَ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ بِي غَيْرِي فَيُشْرِكُونَ فِي تَوْحِيدِي سِوَاي: “ {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} “، أَيْ: مَا هَذَا الَّذِي جِئْتَنَا بِهِ إِلَّا سِحْرٌ سَحَرْتَ بِهِ أَعْيُنَنَا، لَيْسَتْ لَهُ حَقِيقَةٌ وَلَا صِحَّةٌ “ مُبِينٌ “، يَقُولُ: مُبِينٌ لِمَنْ تَدَبَّرَهُ وَتَأَمَّلَهُ أَنَّهُ سِحْرٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: “ {كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} “، قَالَ: فَمَسُّوهُ وَنَظَرُوا إِلَيْهِ، لَمْ يُصَدِّقُوا بِهِ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: “ {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} “، يَقُولُ: فَعَايَنُوهُ مُعَايَنَةً “ {لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} “. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: “ {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} “، يَقُولُ: لَوْ نَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ صُحُفًا فِيهَا كِتَابٌ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ، لَزَادَهُمْ ذَلِكَ تَكْذِيبًا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: “ {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ} “، الصُّحُفِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: “ فِي قِرْطَاسٍ “، يَقُولُ: فِي صَحِيفَةٍ “ {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} “.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبُونَ بِآيَاتِي، الْعَادِلُونَ بِي الْأَنْدَادَ وَالْآلِهَةَ، يَا مُحَمَّدُ، لَكَ لَوْ دَعَوْتَهُمْ إِلَى تَوْحِيدِي وَالْإِقْرَارِ بِرُبُوبِيَّتِي، وَإِذَا أَتَيْتَهُمْ مِنَ الْآيَاتِ وَالْعِبَرِ بِمَا أَتَيْتَهُمْ بِهِ، وَاحْتَجَجْتَ عَلَيْهِمْ بِمَا احْتَجَجْتَ عَلَيْهِمْ مِمَّا قَطَعْتَ بِهِ عُذْرَهُمْ: هَلَّا نُزِّلَ عَلَيْكَ مَلَكٌ مِنَ السَّمَاءِ فِي صُورَتِهِ، يُصَدِّقُكَ عَلَى مَا جِئْتَنَا بِهِ، وَيَشْهَدُ لَكَ بِحَقِيقَةِ مَا تَدَّعِي مِنْ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَكَ إِلَيْنَا! كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُخْبِرًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ فِي قِيلِهِمْ لِنَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} [سُورَةُ الْفُرْقَانِ: 7]، “ {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ} “، يَقُولُ: وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا عَلَى مَا سَأَلُوا، ثُمَّ كَفَرُوا وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي، لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ عَاجِلًا غَيْرَ آجِلٍ، وَلِمَ يُنْظَرُوا فَيُؤَخَّرُوا بِالْعُقُوبَةِ مُرَاجَعَةَ التَّوْبَةِ، كَمَا فَعَلْتُ بِمَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي سَأَلَتِ الْآيَاتِ، ثُمَّ كَفَرَتْ بَعْدَ مَجِيئِهَا، مِنْ تَعْجِيلِ النَّقْمَةِ، وَتَرْكِ الْإِنْظَارِ، كَمَا:- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: “ {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ} “، يَقُولُ: لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: “ {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ} “، يَقُولُ: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَنْزَلْنَا إِلَيْهِمْ مَلَكًا، ثُمَّ لَمْ يُؤْمِنُوا، لَمْ يُنْظَرُوا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ}، فِي صُورَتِهِ، " {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ} “، لَقَامَتِ السَّاعَةُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ: “ {لَقُضِيَ الْأَمْرُ} “، قَالَ: لَقَامَتِ السَّاعَةُ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: “ {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ} “، قَالَ يَقُولُ: لَوْ أَنْزَلَ اللَّهُ مَلَكًا ثُمَّ لَمْ يُؤْمِنُوا، لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ. وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ بِمَا:- حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ، أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنَ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: “ {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ} “، قَالَا لَوْ أَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَتِهِ لَمَاتُوا، ثُمَّ لَمَّ يُؤَخَّرُوا طَرْفَةَ عَيْنٍ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَوْ جَعَلْنَا رَسُولَنَا إِلَى هَؤُلَاءِ الْعَادِلِينَ بِي، الْقَائِلِينَ: لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ مَلَكٌ بِتَصْدِيقِهِ- مَلَكًا يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ، يَشْهَدُ بِتَصْدِيقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَأْمُرُهُمْ بِاتِّبَاعِهِ “ لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا “، يَقُولُ: لَجَعَلْنَاهُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ مِنَ الْبَشَرِ، لِأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَرَوُا الْمَلَكَ فِي صُورَتِهِ. يَقُولُ: وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَسَوَاءً أَنْزَلْتُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ مَلَكًا أَوْ بَشَرًا، إِذْ كُنْتُ إِذَا أَنْزَلْتُ عَلَيْهِمْ مَلَكًا إِنَّمَا أُنْزِلُهُ بِصُورَةِ إِنْسِيٍّ، وَحُجَجِي فِي كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ عَلَيْهِمْ ثَابِتَةٌ: بِأَنَّكَ صَادِقٌ، وَأَنَّ مَا جِئْتَهُمْ بِهِ حَقٌّ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: “ {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا} “، يَقُولُ: مَا آتَاهُمْ إِلَّا فِي صُورَةِ رَجُلٍ، لِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ النَّظَرَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: “ {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا} “، فِي صُورَةِ رَجُلٍ، فِي خَلْقِ رَجُلٍ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: “ {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا} “، يَقُولُ: لَوْ بَعَثْنَا إِلَيْهِمْ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ فِي صُورَةِ آدَمَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: “ {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا} “، يَقُولُ: فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: “ {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا} “ قَالَ: لَجَعَلْنَا ذَلِكَ الْمَلَكَ فِي صُورَةِ رَجُلٍ، لَمْ نُرْسِلْهُ فِي صُورَةِ الْمَلَائِكَةِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: “ {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ} “: وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا مِنَ السَّمَاءِ مُصَدِّقًا لَكَ، يَا مُحَمَّدُ، شَاهِدًا لَكَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْعَادِلِينَ بِي، الْجَاحِدِينَ آيَاتِكَ عَلَى حَقِيقَةِ نُبُوَّتِكَ، فَجَعَلْنَاهُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ مِنْ بَنِي آدَمَ، إِذْ كَانُوا لَا يُطِيقُونَ رُؤْيَةَ الْمَلَكِ بِصُورَتِهِ الَّتِي خَلَقْتُهُ بِهَا، الْتَبَسَ عَلَيْهِمْ أَمْرُهُ، فَلَمْ يَدْرُوا أَمَلَكٌ هُوَ أَمْ إِنْسِيٌّ! فَلَمْ يُوقِنُوا بِهِ أَنَّهُ مَلَكٌ، وَلَمْ يُصَدِّقُوا بِهِ، وَقَالُوا: “ لَيْسَ هَذَا مَلَكًا “! وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ حَقِيقَةِ أَمْرِكَ، وَصِحَّةِ بُرْهَانِكَ وَشَاهِدِكَ عَلَى نُبُوَّتِكَ. يُقَالُ مِنْهُ: “ لَبَسْتُ عَلَيْهِمُ الْأَمْرَ أَلْبِسُهُ لَبْسًا “، إِذَا خَلَطْتُهُ عَلَيْهِمْ “ وَلَبِسْتُ الثَّوْبَ أَلْبَسُهُ لُبْسًا “. وَ“ اللَّبُوسُ “، اسْمُ الثِّيَابِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: “ {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} “، يَقُولُ: لَشَبَّهْنَا عَلَيْهِمْ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: “ {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} “، يَقُولُ: مَا لَبَّسَ قَوْمٌ عَلَى أَنْفُسِهِمْ إِلَّا لَبَّسَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. وَاللَّبْسُ إِنَّمَا هُوَ مِنَ النَّاسِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: “ {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} “، يَقُولُ: شَبَّهْنَا عَلَيْهِمْ مَا يُشَبِّهُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ قَوْلٌ آخَرُ، وَهُوَ مَا:- حَدَّثَنِي بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: “ {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} “، فَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، فَارَقُوا دِينَهُمْ، وَكَذَّبُوا رُسُلَهُمْ، وَهُوَ تَحْرِيفُ الْكَلَامِ عَنْ مَوَاضِعِهِ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ قَالَ، سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ، سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ فِي قَوْلِهِ: “ {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} “، يَعْنِي: التَّحْرِيفَ، هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، فَرَّقُوا كُتُبَهُمْ وَدِينَهُمْ، وَكَذَّبُوا رُسُلَهُمْ، فَلَبَّسَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا لَبَّسُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى قَبْلُ أَنْ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ، بِأَنْ تَكُونَ فِي أَمْرِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، أَشْبَهُ مِنْهَا بِأَمْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مُسَلِّيًا عَنْهُ بِوَعِيدِهِ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِهِ عُقُوبَةَ مَا يَلْقَى مِنْهُمْ مِنْ أَذَى الِاسْتِهْزَاءِ بِهِ، وَالِاسْتِخْفَافِ فِي ذَاتِ اللَّهِ: هَوِّنْ عَلَيْكَ، يَا مُحَمَّدُ، مَا أَنْتَ لَاقٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِكَ، الْمُسْتَخِفِّينَ بِحَقِّكَ فِيَّ وَفِي طَاعَتِي، وَامْضِ لِمَا أَمَرْتُكَ بِهِ مِنَ الدُّعَاءِ إِلَى تَوْحِيدِي وَالْإِقْرَارِ بِي وَالْإِذْعَانِ لِطَاعَتِي، فَإِنَّهُمْ إِنْ تَمَادَوْا فِي غَيِّهِمْ، وَأَصَرُّوا عَلَى الْمَقَامِ عَلَى كُفْرِهِمْ، نَسْلُكُ بِهِمْ سَبِيلَ أَسْلَافِهِمْ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ مِنْ غَيْرِهِمْ، مِنْ تَعْجِيلِ النِّقْمَةِ لَهُمْ، وَحُلُولِ الْمَثُلَاثِ بِهِمْ. فَقَدْ اسْتَهْزَأَتْ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكَ بِرُسُلٍ أَرْسَلْتُهُمْ إِلَيْهِمْ بِمِثْلِ الَّذِي أَرْسَلْتُكَ بِهِ إِلَى قَوْمِكَ، وَفَعَلُوا مِثْلَ مَا فَعَلَ قَوْمُكَ بِكَ “ {فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} “، يَعْنِي بِقَوْلِهِ: “ فَحَاقَ “، فَنَزَلَ وَأَحَاطَ بِاَلَّذِينِ هَزِئُوا مِنْ رُسُلِهِمْ “ {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} “، يَقُولُ: الْعَذَابُ الَّذِي كَانُوا يَهْزَءُونَ بِهِ، وَيُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا بِهِمْ عَلَى مَا أَنْذَرَتْهُمْ رُسُلُهُمْ. يُقَالُ مِنْهُ: “ حَاقَ بِهِمْ هَذَا الْأَمْرُ يَحِيقُ بِهِمْ حَيْقًا وَحُيُوقًا وَحَيَقَانًا “. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيُّ: “ {فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ} “، مِنَ الرُّسُلِ “ {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} “، يَقُولُ: وَقَعَ بِهِمُ الْعَذَابُ الَّذِي اسْتَهْزَءُوا بِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: “ قُلْ “، يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْعَادِلِينَ بِيَ الْأَوْثَانَ وَالْأَنْدَادَ، الْمُكَذِّبِينَ بِكَ، الْجَاحِدِينَ حَقِيقَةَ مَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِي “ {سِيرُوا فِي الْأَرْضِ} “، يَقُولُ: جُولُوا فِي بِلَادِ الْمُكَذِّبِينَ رُسُلَهُمْ، الْجَاحِدِينَ آيَاتِي مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ ضُرَبَائِهُمْ وَأَشْكَالِهِمْ مِنَ النَّاسِ “ {ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} “، يَقُولُ: ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ أَعْقَبَهُمْ تَكْذِيبَهُمْ ذَلِكَ، الْهَلَاكَ وَالْعَطَبَ وَخِزْيَ الدُّنْيَا وَعَارَهَا، وَمَا حَلَّ بِهِمْ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، مِنَ الْبَوَارِ وَخَرَابِ الدِّيَارِ وَعَفُوِ الْآثَارِ. فَاعْتَبِرُوا بِهِ، إِنْ لَمْ تَنْهَكُمْ حُلُومُكُمْ، وَلَمْ تَزْجُرْكُمْ حُجَجُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، عَمَّا أَنْتُمْ [عَلَيْهِ] مُقِيمُونَ مِنَ التَّكْذِيبِ، فَاحْذَرُوا مِثْلَ مَصَارِعِهِمْ، وَاتَّقُوا أَنْ يَحِلَّ بِكُمْ مِثْلُ الَّذِي حَلَّ بِهِمْ. وَكَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ فِي ذَلِكَ بِمَا:- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: “ {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} “، دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَأَهْلَكَهُمْ، ثُمَّ صَيَّرَهُمْ إِلَى النَّارِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “ قُلْ “، يَا مُحَمَّدُ، لِهَؤُلَاءِ الْعَادِلِينَ بِرَبِّهِمْ “ {لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} “، يَقُولُ: لِمَنْ مَلَكَ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ؟ ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ لِلَّهِ الَّذِي اسْتَعْبَدَ كُلَّ شَيْءٍ، وَقَهَرَ كُلَّ شَيْءٍ بِمِلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ لَا لِلْأَوْثَانِ وَالْأَنْدَادِ، وَلَا لِمَا يَعْبُدُونَهُ وَيَتَّخِذُونَهُ إِلَهًا مِنَ الْأَصْنَامِ الَّتِي لَا تَمْلِكُ لِأَنْفُسِهَا نَفْعًا وَلَا تَدْفَعُ عَنْهَا ضُرًّا. وَقَوْلُهُ: “ {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} “، يَقُولُ: قَضَى أَنَّهُ بِعِبَادِهِ رَحِيمٌ، لَا يُعَجِّلُ عَلَيْهِمْ بِالْعُقُوبَةِ، وَيَقْبَلُ مِنْهُمُ الْإِنَابَةَ وَالتَّوْبَةَ. وَهَذَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ اسْتِعْطَافٌ لِلْمُعْرِضِينَ عَنْهُ إِلَى الْإِقْبَالِِ إِلَيْهِ بِالتَّوْبَةِ. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْعَادِلِينَ بِي، الْجَاحِدِينَ نُبُوَّتَكَ، يَا مُحَمَّدُ، إِنْ تَابُوا وَأَنَابُوا قَبِلْتُ تَوْبَتَهُمْ، وَإِنِّي قَدْ قَضَيْتُ فِي خَلْقِي أَنَّ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، كَاَلَّذِي:- حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ ذَكْوَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «: “ لَمَّا فَرَغَ اللَّهُ مِنَ الْخَلْقِ، كَتَبَ كِتَابًا: “ إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي “. » حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ سَلْمَانَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ لَمَّا خَلَقَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ، خَلَقَ ماِئَةَ رَحْمَةٍ، كُلُّ رَحْمَةٍ مَلْءُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ. فَعِنْدَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ رَحْمَةً، وَقَسَّمَ رَحْمَةً بَيْنَ الْخَلَائِقِ. فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ، وَبِهَا تَشْرَبُ الْوَحْشُ وَالطَّيْرُ الْمَاءَ. فَإِذَا كَانَ يَوْمُ ذَلِكَ، قَصَرَهَا اللَّهُ عَلَى الْمُتَّقِينَ، وَزَادَهُمْ تِسْعًا وَتِسْعِينَ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ سَلْمَانَ، نَحْوَهُ إِلَّا أَنَّ ابْنَ أَبِي عَدِيٍّ لَمْ يَذْكُرْ فِي حَدِيثِهِ «: “ وَبِهَا تَشْرَبُ الْوَحْشُ وَالطَّيْرُ الْمَاءَ “. » حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ سَلْمَانَ قَالَ: نَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ عَطْفَتَيْنِ: أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، ثُمَّ خَلَقَ مِائَةَ رَحْمَةٍ أَوْ: جَعَلَ مِائَةَ رَحْمَةٍ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ. ثُمَّ خَلَقَ الْخَلْقَ، فَوَضَعَ بَيْنَهُمْ رَحْمَةً وَاحِدَةً، وَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً. قَالَ: فَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ، وَبِهَا يَتَبَاذَلُونَ، وَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ، وَبِهَا يَتَزَاوَرُونَ، وَبِهَا تَحِنُّ النَّاقَةُ، وَبِهَا تَثُوجُ الْبَقَرَةُ، وَبِهَا تَيْعَرُ الشَّاةُ، وَبِهَا تَتَّابَعُ الطَّيْرُ، وَبِهَا تَتَّابَعُ الْحِيتَانُ فِي الْبَحْرِ. فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، جَمَعَ اللَّهُ تِلْكَ الرَّحْمَةَ إِلَى مَا عِنْدَهُ. وَرَحْمَتُهُ أَفْضَلُ وَأَوْسَعُ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدَيِّ، عَنْ سَلْمَانَ فِي قَوْلِهِ: “ {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} “، الْآيَةَ قَالَ: إِنَّا نَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ عَطْفَتَيْنِ ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: “ وَبِهَا تَتَابُعُ الطَّيْرِ، وَبِهَا تَتَابُعُ الْحِيتَانِ فِي الْبَحْرِ “. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ طَاوُسَ، عَنْ أَبِيهِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ لَمَّا خَلَقَ الْخَلْقَ، لَمْ يَعْطِفْ شَيْءٌ عَلَى شَيْءٍ، حَتَّى خَلَقَ ماِئَةَ رَحْمَةٍ، فَوَضَعَ بَيْنَهُمْ رَحْمَةً وَاحِدَةً، فَعَطَفَ بَعْضُ الْخَلْقِ عَلَى بَعْضٍ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ طَاوُسَ، عَنْ أَبِيهِ، بِمِثْلِهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ، وَأَخْبَرَنِي الْحَكَمُ بْنُ أَبَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، حَسِبْتُهُ أَسْنَدَهُ قَالَ: «إِذَا فَرَغَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ خَلْقِهِ، أَخْرَجَ كِتَابًا مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ فِيهِ: “ إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي، وَأَنَا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ “، قَالَ: فَيُخْرِجُ مِنَ النَّارِ مِثْلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَوْ قَالَ: “ مِثْلًا أَهْلَ الْجَنَّةِ “، وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا قَالَ: “ مِثْلًا “، وَأَمَّا “ مِثْلَ “ فَلَا أَشُكُّ مَكْتُوبًا هَاهُنَا، وَأَشَارَ الْحَكَمُ إِلَى نَحْرِهِ، “ عُتَقَاءِ اللَّهِ “، فَقَالَ رَجُلٌ لِعِكْرِمَةَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 37]؟ قَالَ: وَيْلَكَ! أُولَئِكَ أَهْلُهَا الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا». حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، حَسِبْتُ أَنَّهُ أَسْنَدَهُ قَالَ: «إِذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَخْرَجَ اللَّهُ كِتَابًا مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ قَوْلَهُ: “ {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ} “»؟ وَسَائِرُ الْحَدِيثِ مِثْلُ حَدِيثِ ابْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “ «لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ، كَتَبَ فِي كِتَابٍ فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ: “ إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي» “. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنْ لِلَّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ، فَأَهْبَطَ رَحْمَةً إِلَى أَهْلِ الدُّنْيَا، يَتَرَاحَمُ بِهَا الْجِنُّ وَالْإِنْسُ، وَطَائِرُ السَّمَاءِ، وَحِيتَانُ الْمَاءِ، وَدَوَابُّ الْأَرْضِ وَهَوَامُّهَا. وَمَا بَيْنَ الْهَوَاءِ. وَاخْتَزَنَ عِنْدَهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، اخْتَلَجَ الرَّحْمَةَ الَّتِي كَانَ أَهْبَطَهَا إِلَى أَهْلِ الدُّنْيَا، فَحَوَاهَا إِلَى مَا عِنْدَهُ، فَجَعَلَهَا فِي قُلُوبِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَعَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: إِنَّ لِلَّهِ ماِئَةَ رَحْمَةٍ، أَهْبَطَ مِنْهَا إِلَى الْأَرْضِ رَحْمَةً وَاحِدَةٍ، يَتَرَاحَمُ بِهَا الْجِنُّ وَالْإِنْسُ، وَالطَّيْرُ وَالْبَهَائِمُ وَهَوَامُّ الْأَرْضِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَوْفٍ قَالَ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ عَبْدُ الْقُدُّوسِ بْنُ الْحَجَّاجِ قَالَ، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنِي أَبُو الْمُخَارِقِ زُهَيْرُ بْنُ سَالِمٍ قَالَ، قَالَ عُمَرُ لِكَعْبٍ: مَا أَوَّلُ شَيْءٍ ابْتَدَأَهُ اللَّهُ مِنْ خَلْقِهِ؟ فَقَالَ كَعْبٌ: كَتَبَ اللَّهُ كِتَابًا لَمْ يَكْتُبْهُ بِقَلَمٍ وَلَا مِدَادٍ، وَلَكِنْ كَتَبَهُ بِإِصْبَعِهِ يَتْلُوهَا الزَّبَرْجَدُ وَاللُّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتُ “ أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا، سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي “.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذِهِ “ اللَّامُ “ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: “ لَيَجْمَعَنَّكُمْ “، لَامُ قَسَمٍ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي جَالِبِهَا، فَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ يَقُولُ: إِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ “ الرَّحْمَةَ “ غَايَةَ كَلَامٍ، ثُمَّ اسْتَأْنَفْتَ بَعْدَهَا: “ لَيَجْمَعَنَّكُمْ “. قَالَ: وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَهُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ يَعْنِي: كُتُبٌ لِيَجْمَعْنَكُمْ كَمَا قَالَ: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ} [سُورَةُ الْأَنْعَامِ: 54]، يُرِيدُ: كَتَبَ أَنَّهُ مِنْ عَمِلَ مِنْكُمْ قَالَ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ فِي الْحُرُوفِ الَّتِي يَصْلُحُ مَعَهَا جَوَابُ كَلَامِ الْأَيْمَانِ بـِ “ أَنَّ “ الْمَفْتُوحَةِ وَبـِ “ اللَّامِ “، فَيَقُولُونَ: “ أَرْسَلْتُ إِلَيْهِ أَنْ يَقُومَ “، “ وَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ لَيَقُومَنَّ “. قَالَ: وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ}، [سُورَةُ يُوسُفَ: 35]. قَالَ: وَهُوَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَوْ قُلْتَ: “ بَدَا لَهُمْ أَنْ يَسْجُنُوهُ “، لَكَانَ صَوَابًا؟ وَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ يَقُولُ: نُصِبَتْ “ لَامُ “ “ لَيَجْمَعَنَّكُمْ “، لِأَنَّ مَعْنَى: “ كَتَبَ “ [: فَرَضَ، وَأَوْجَبَ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْقَسَمِ]، كَأَنَّهُ قَالَ: وَاللَّهُ لَيَجْمَعَنَّكُمْ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي، أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: “ {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} “، غَايَةً، وَأَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: “ لَيَجْمَعَنَّكُمْ “، خَبَرَ مُبْتَدَأً وَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ حِينَئِذٍ: لَيَجْمَعَنَّكُمْ اللَّهُ، أَيُّهَا الْعَادِلُونَ بِاللَّهِ، لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ، لِيَنْتَقِمَ مِنْكُمْ بِكُفْرِكُمْ بِهِ. وَإِنَّمَا قُلْتُ: هَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ إِعْمَالِ “ كَتَبَ “ فِي “ لَيَجْمَعَنَّكُمْ “، لِأَنَّ قَوْلَهُ: “ كَتَبَ “ قَدْ عَمِلَ فِي الرَّحْمَةِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ، وَقَدْ عَمِلَ فِي “ الرَّحْمَةِ “، أَنْ يَعْمَلَ فِي “ لَيَجْمَعَنَّكُمْ “، لِأَنَّهُ لَا يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا أَنْتَ قَائِلٌ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ. [سُورَةُ الْأَنْعَامِ: 54] بِفَتْحِ “ أَنَّ “؟ قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ إِذَا قُرِئَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ “ أَنَّ “ بَيَانٌ عَنِ “ الرَّحْمَةِ “، وَتَرْجَمَةٌ عَنْهَا. لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنْ يَرْحَمَ [مَنْ تَابَ] مِنْ عِبَادِهِ بَعْدَ اقْتِرَافِ السُّوءِ بِجَهَالَةٍ وَيَعْفُو، وَ“ الرَّحْمَةُ “، يُتَرْجَمُ عَنْهَا وَيُبَيَّنُ مَعْنَاهَا بِصِفَتِهَا. وَلَيْسَ مِنْ صِفَةِ الرَّحْمَةِ “ {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} “، فَيَكُونُ مُبَيِّنًا بِهِ عَنْهَا. فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ تُنْصَبَ بِنِيَّةِ تَكْرِيرِ “ كَتَبَ “ مَرَّةً أُخْرَى مَعَهُ، وَلَا ضَرُورَةَ بِالْكَلَامِ إِلَى ذَلِكَ، فَيُوَجَّهُ إِلَى مَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي ظَاهِرِهِ. وَأَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ: “ لَا رَيْبَ فِيهِ “، فَإِنَّهُ لَا شَكَّ فِيهِ، يَقُولُ: فِي أَنَّ اللَّهَ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَيَحْشُرُكُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا، ثُمَّ يُؤْتِي كُلَّ عَامِلٍ مِنْكُمْ أَجْرَ مَا عَمِلَ مِنْ حَسَنٍ أَوْ سَيِّئٍ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: “ {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} “، الْعَادِلِينَ بِهِ الْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لَيَجْمَعَنَّ اللَّهُ “ {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} “، يَقُولُ: الَّذِينَ أَهْلَكُوا أَنْفُسَهُمْ وَغَبَنُوهَا بِادِّعَائِهِمْ لِلَّهِ النِّدَّ وَالْعَدِيلِ، فَأَوْبَقُوهَا بِاسْتِيجَابِهِمْ سَخَطَ اللَّهِ وَأَلِيمَ عِقَابِهِ فِي الْمَعَادِ. وَأَصْلُ “ الْخَسَارِ “، الْغَبْنُ. يُقَالُ مِنْهُ “: خَسِرَ الرَّجُلُ فِي الْبَيْعِ “، إِذَا غُبِنَ، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى: لَا يَأْخُذُ الرِّشْوَةَ فِي حُكْمِهِ *** وَلَا يُبَالِي خَسَرَ الْخَاسِرِ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَمَوْضِعُ “ الَّذِينَ “ فِي قَوْلِهِ: “ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ “، نَصْبٌ عَلَى الرَّدِّ عَلَى “ الْكَافِ وَالْمِيمِ “ فِي قَوْلِهِ: “ لَيَجْمَعَنَّكُمْ “، عَلَى وَجْهِ الْبَيَانِ عَنْهَا. وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ، هُمُ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِقَوْلِهِ: “ لَيَجْمَعَنَّكُمْ “. وَقَوْلُهُ: “ {فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} “، يَقُولُ: “ فَهُمْ “، لِإِهْلَاكِهِمْ أَنْفُسَهُمْ وَغَبْنِهِمْ إِيَّاهُ حَظَّهَا “ لَا يُؤْمِنُونَ “، أَيْ لَا يُوَحِّدُونَ اللَّهَ، وَلَا يُصَدِّقُونَ بِوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، وَلَا يُقِرُّونَ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لَا يُؤْمِنُ هَؤُلَاءِ الْعَادِلُونَ بِاللَّهِ الْأَوْثَانَ، فَيُخْلِصُوا لَهُ التَّوْحِيدَ، وَيُفْرِدُوا لَهُ الطَّاعَةَ، وَيُقِرُّوا بِالْأُلُوهِيَّةِ، جَهِلًا “وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ“، يَقُولُ: وَلَهُ مُلْكُ كُلِّ شَيْءٍ، لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ إِلَّا وَهُوَ سَاكِنٌ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. فَمَعْلُومٌ بِذَلِكَ أَنَّ مَعْنَاهُ مَا وَصَفْنَا “ وَهُوَ السَّمِيعُ “، يَقُولُ: وَهُوَ السَّمِيعُ مَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ فِيهِ، مِنَ ادِّعَائِهِمْ لَهُ شَرِيكًا، وَمَا يَقُولُ غَيْرُهُمْ مِنْ خَلْقِهِ، “ الْعَلِيمُ “، بِمَا يُضْمِرُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَمَا يُظْهِرُونَهُ بِجَوَارِحِهِمْ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَهُوَ يُحْصِيهِ عَلَيْهِمْ، لِيُوَفِّيَ كُلَّ إِنْسَانٍ ثَوَابَ مَا اكْتَسَبَ، وَجَزَاءَ مَا عَمِلَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: “ سَكَنَ “، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: “ {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} “، يَقُولُ: مَا اسْتَقَرَّ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ) قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “ قُلْ “، يَا مُحَمَّدُ، لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْعَادِلِينَ بِرَبِّهِمُ الْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ، وَالْمُنْكِرِينَ عَلَيْكَ إِخْلَاصَ التَّوْحِيدِ لِرَبِّكَ، الدَّاعِينَ إِلَى عِبَادَةِ الْآلِهَةِ وَالْأَوْثَانِ: أَشَيْئًا غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: “ أَتَّخِذُ وَلِيًّا “، أَسْتَنْصِرُهُ وَأَسْتَعِينُهُ عَلَى النَّوَائِبِ وَالْحَوَادِثِ، كَمَا:- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: “ {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا} “، قَالَ: أَمَّا “ الْوَلِيُّ “، فَاَلَّذِي يَتَوَلَّوْنَهُ وَيُقِرُّونَ لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ. “ {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} “، يَقُولُ: أَشَيْئًا غَيْرَ اللَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا؟ فَ “ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ “، مِنْ نَعْتِ “ اللَّهِ “ وَصِفَتِهُ، وَلِذَلِكَ خُفِضَ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: “ {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} “، مُبْتَدِعَهُمَا وَمُبْتَدِئَهِمَا وَخَالِقَهُمَا، كَاَلَّذِي:- حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: كُنْتُ لَا أَدْرِي مَا “ {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} “، حَتَّى أَتَانِي أَعْرَابِيَّانِ يَخْتَصِمَانِ فِي بِئْرٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: “ أَنَا فَطَرْتُهَا “، يَقُولُ: أَنَا ابْتَدَأْتُهَا. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: “ {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} “، قَالَ: خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: “ {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} “، قَالَ: خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. يُقَالُ مِنْ ذَلِكَ: “ فَطَرَهَا اللَّهُ يَفْطُرُهَا وَيَفْطِرُهَا فَطْرًا وَفُطُورًا “ وَمِنْهُ قَوْلُهُ: هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ [سُورَةُ الْمُلْكِ: 3]، يَعْنِي: شُقُوقًا وَصُدُوعًا. يُقَالُ: “ سَيْفٌ فُطَارٌ “، إِذَا كَثُرَ فِيهِ التَّشَقُّقُ، وَهُوَ عَيْبٌ فِيهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَنْتَرَةَ: وَسَيْفِي كَالْعَقِيقَةِ فَهْوَ كِمْعِي، *** سِلَاحِي، لَا أَفَلَّ وَلَا فُطَارَا وَمِنْهُ يُقَالُ: “ فَطَرَ نَابُ الْجَمَلِ “، إِذَا تَشَقَّقَ اللَّحْمُ فَخَرَجَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ} [سُورَةُ الشُّورَى: 5]، أَيْ: يَتَشَقَّقْنَ، وَيَتَصَدَّعْنَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: “ {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} “، فَإِنَّهُ يَعْنِي: وَهُوَ يَرْزُقُ خَلْقَهُ وَلَا يُرْزَقُ، كَمَا:- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: “ {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} “، قَالَ: يَرْزُقُ، وَلَا يُرْزَقُ. وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ ذَلِكَ: " وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يَطْعَمُ "، أَيْ: أَنَّهُ يُطْعِمُ خَلْقَهُ، وَلَا يَأْكُلُ هُوَ وَلَا مَعْنَى لِذَلِكَ، لِقِلَّةِ الْقَرَأَةِ بِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “ قُلْ “، يَا مُحَمَّدُ، لِلَّذِينِ يَدْعُونَكَ إِلَى اتِّخَاذِ الْآلِهَةِ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَيَحُثُّونَكَ عَلَى عِبَادَتِهَا: أَغَيْرَ اللَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ يَرْزُقُنِي وَغَيْرِي وَلَا يَرْزُقُهُ أَحَدٌ، أَتَّخِذُ وَلِيًّا هُوَ لَهُ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ وَخَلْقٌ مَخْلُوقٌ؟ وَقُلْ لَهُمْ أَيْضًا: إِنِّي أَمَرَنِي رَبِّي: “ {أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} “ يَقُولُ: أَوَّلَ مَنْ خَضَعَ لَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ، وَتَذَلَّلَ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَانْقَادَ لَهُ مَنْ أَهْلِ دَهْرِي وَزَمَانِي “ {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} “، يَقُولُ: وَقُلْ: وَقِيلَ لِي: لَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ، الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الْآلِهَةَ وَالْأَنْدَادَ شُرَكَاءَ. وَجُعِلَ قَوْلُهُ: “ أُمِرْتُ “ بَدَلًا مِنْ: “ قِيلَ لِي “، لِأَنَّ قَوْلَهُ “ أُمِرْتُ “ مَعْنَاهُ: “ قِيلَ لِي “. فَكَأَنَّهُ قِيلَ: قُلْ إِنِّي قِيلَ لِي: كُنْ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ، وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَاجْتُزِئَ بِذِكْرِ “ الْأَمْرِ “ مِنْ ذِكْرِ “ الْقَوْلِ “، إِذْ كَانَ “ الْأَمْرُ “، مَعْلُومًا أَنَّهُ “ قَوْلٌ “.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْعَادِلِينَ بِاللَّهِ، الَّذِينَ يَدْعُونَكَ إِلَى عِبَادَةِ أَوْثَانِهِمْ: إِنَّ رَبِّي نَهَانِي عَنْ عِبَادَةِ شَيْءٍ سِوَاهُ “ وَإِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي “، فَعَبَدْتُهَا “ {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} “، يَعْنِي: عَذَابَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَوَصَفَهُ تَعَالَى بِ “ الْعِظَمِ “ لِعِظَمِ هَوْلِهِ، وَفَظَاعَةِ شَأْنِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ. فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قَرَأَةِ الْحِجَازِ وَالْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ: مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ، بِضَمِّ “ الْيَاءِ “ وَفَتْحِ “ الرَّاءِ “، بِمَعْنَى: مَنْ يُصْرَفُ عَنْهُ الْعَذَابُ يَوْمَئِذٍ. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قَرَأَةِ الْكُوفَةِ: {مَنْ يَصْرِفْ عَنْهُ}، بِفَتْحِ “ الْيَاءِ “ وَكَسْرِ “ الرَّاءِ “، بِمَعْنَى: مَنْ يَصْرِفُ اللَّهُ عَنْهُ الْعَذَابَ يَوْمَئِذٍ. وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ عِنْدِي، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُ: {يَصْرِفْ عَنْهُ}، بِفَتْحِ “ الْيَاءِ “ وَكَسْرِ “ الرَّاءِ “، لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: “ فَقَدْ رَحِمَهُ “ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ، وَأَنَّ الْقِرَاءَةَ فِيهِ بِتَسْمِيَةِ فَاعِلِهِ. وَلَوْ كَانَتِ الْقِرَاءَةُ فِي قَوْلِهِ: “ مَنْ يَصْرِفْ “، عَلَى وَجْهِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، كَانَ الْوَجْهُ فِي قَوْلِهِ: “ فَقَدْ رَحِمَهُ “ أَنْ يُقَالَ: “ فَقَدْ رُحِمَ “ غَيْرَ مُسَمًّى فَاعِلُهُ. وَفِي تَسْمِيَةِ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ: “ فَقَدْ رَحِمَهُ “، دَلِيلٌ بَيِّنٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: “ مَنْ يَصْرِفْ عَنْهُ “. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْوَجْهَ الْأَوْلَى بِالْقِرَاءَةِ، فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: مَنْ يَصْرِفُ عَنْهُ مِنْ خَلْقِهِ يَوْمَئِذٍ عَذَابَهُ فَقَدْ رَحِمَهُ “ {وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} “، وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: “ وَذَلِكَ “، وَصَرْفُ اللَّهِ عَنْهُ الْعَذَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَرَحْمَتُهُ إِيَّاهُ “ الْفَوْزُ “، أَيِ: النَّجَاةُ مِنَ الْهَلَكَةِ، وَالظَّفَرِ بِالطَّلِبَةِ “ الْمُبِينُ “، يَعْنِي الَّذِي بَيَّنَ لِمَنْ رَآهُ أَنَّهُ الظَّفَرُ بِالْحَاجَةِ وَإِدْرَاكِ الطَّلِبَةِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي قَوْلِهِ: “ مَنْ يُصْرَفُ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ “ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ:
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ “ {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ} “، قَالَ: مَنْ يُصْرَفُ عَنْهُ الْعَذَابُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنْ يُصِبْكَ اللَّهُ “ بِضُرٍّ “، يَقُولُ: بِشِدَّةٍ فِي دُنْيَاكَ، وَشَظَفٍ فِي عَيْشِكِ وَضِيقٍ فِيهِ، فَلَنْ يَكْشِفَ ذَلِكَ عَنْكَ إِلَّا اللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ أَنْ تَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَأَذْعَنَ لَهُ مِنْ أَهْلِ زَمَانِكَ، دُونَ مَا يَدْعُوكَ الْعَادِلُونَ بِهِ إِلَى عِبَادَتِهِ مِنَ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ، وَدُونَ كُلِّ شَيْءٍ سِوَاهَا مِنْ خَلْقِهِ “ {وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ} “، يَقُولُ: وَإِنْ يُصِبْكَ بِخَيْرٍ، أَيْ: بِرَخَاءٍ فِي عَيْشٍ، وَسِعَةٍ فِي الرِّزْقِ، وَكَثْرَةٍ فِي الْمَالِ، فَتُقِرُّ أَنَّهُ أَصَابَكَ بِذَلِكَ “ {فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} “، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَاللَّهُ الَّذِي أَصَابَكَ بِذَلِكَ، فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى نَفْعِكَ وَضُرِّكَ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ يُرِيدُهُ قَادِرٌ، لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ يُرِيدُهُ، وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْهُ شَيْءٌ طَلَبَهُ، لَيْسَ كَالْآلِهَةِ الذَّلِيلَةِ الْمَهِينَةِ الَّتِي لَا تَقْدِرُ عَلَى اجْتِلَابِ نَفْعٍ عَلَى أَنْفُسِهَا وَلَا غَيْرِهَا، وَلَا دَفْعِ ضُرٍّ عَنْهَا وَلَا غَيْرِهَا. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَكَيْفَ تَعْبُدُ مَنْ كَانَ هَكَذَا، أَمْ كَيْفَ لَا تُخْلِصُ الْعِبَادَةَ، وَتُقِرُّ لِمَنْ كَانَ بِيَدِهِ الضُّرُّ وَالنَّفْعُ، وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ، وَلَهُ الْقُدْرَةُ الْكَامِلَةُ، وَالْعِزَّةُ الظَّاهِرَةُ؟
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: “ وَهُوَ “، نَفْسَهُ، يَقُولُ: وَاللَّهُ الظَّاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: “ الْقَاهِرُ “، الْمُذَلِّلَ الْمُسْتَعْبِدَ خَلْقَهُ، الْعَالِي عَلَيْهِمْ. وَإِنَّمَا قَالَ: “ فَوْقَ عِبَادِهِ “، لِأَنَّهُ وَصَفَ نَفْسَهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَهْرِهِ إِيَّاهُمْ. وَمِنْ صِفَةِ كُلِّ قَاهِرٍ شَيْئًا أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْلِيًا عَلَيْهِ. فَمَعْنَى الْكَلَامِ إِذًا: وَاللَّهُ الْغَالِبُ عِبَادَهُ، الْمُذَلِّلُهُمْ، الْعَالِي عَلَيْهِمْ بِتَذْلِيلِهِ لَهُمْ، وَخَلْقِهِ إِيَّاهُمْ، فَهُوَ فَوْقَهُمْ بِقَهْرِهِ إِيَّاهُمْ، وَهُمْ دُونَهُ “ وَهُوَ الْحَكِيمُ “، يَقُولُ: وَاللَّهُ الْحَكِيمُ فِي عُلُوِّهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَقَهْرِهِ إِيَّاهُمْ بِقُدْرَتِهِ، وَفِي سَائِرِ تَدْبِيرِهِ “ الْخَبِيرُ “، بِمَصَالِحِ الْأَشْيَاءِ وَمَضَارِّهَا، الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ عَوَاقِبَ الْأُمُورِ وَبَوَادِيهَا، وَلَا يَقَعُ فِي تَدْبِيرِهِ خَلَلٌ، وَلَا يَدْخُلُ حُكْمَهُ دَخَلٌ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ، يَا مُحَمَّدُ، لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ وَيَجْحَدُونَ نُبُوَّتَكَ مِنْ قَوْمِكَ: أَيُّ شَيْءٍ أَعْظَمُ شَهَادَةً وَأَكْبَرُ؟ ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّ أَكْبَرَ الْأَشْيَاءِ شَهَادَةُ: “ اللَّهِ “، الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ فِي شَهَادَتِهِ مَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ فِي [شَهَادَةِ] غَيْرِهِ مِنْ خَلْقِهِ مِنَ السَّهْوِ وَالْخَطَأِ، وَالْغَلَطِ وَالْكَذِبِ. ثُمَّ قُلْ لَهُمْ: إِنَّ الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ الْأَشْيَاءِ شَهَادَةً، شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، بِالْمُحِقِّ مِنَّا مِنَ الْمُبْطِلِ، وَالرَّشِيدِ مِنَّا فِي فِعْلِهِ وَقَوْلِهِ مِنَ السَّفِيهِ، وَقَدْ رَضِينَا بِهِ حُكْمًا بَيْنَنَا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ:
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: “ {أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً} “، قَالَ: أَمَرَ مُحَمَّدًا أَنْ يَسْأَلَ قُرَيْشًا، ثُمَّ أَمَرَ أَنْ يُخْبِرَهُمْ فَيَقُولُ: “ {اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} “. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، نَحْوَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَكَ: “ {اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} “ “ {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ} “ عِقَابَهُ، وَأُنْذِرَ بِهِ مَنْ بَلَغَهُ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ غَيْرِكُمْ إِنْ لَمْ يَنْتَهِ إِلَى الْعَمَلِ بِمَا فِيهِ، وَتَحْلِيلِ حَلَالِهِ وَتَحْرِيمِ حَرَامِهِ، وَالْإِيمَانِ بِجَمِيعِهِ نُزُولَ نَقْمَةِ اللَّهِ بِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ. ذِكْرُ مِنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، «عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: “ {أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} “، ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، بَلِّغُوا وَلَوْ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ مَنْ بَلَغَهُ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، فَقَدْ بَلَغَهُ أَمْرُ اللَّهِ، أَخَذَهُ أَوْ تَرَكَه». حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، «عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: “ {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} “، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: بَلِّغُوا عَنِ اللَّهِ، فَمَنْ بَلَغَهُ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، فَقَدْ بَلَغَهُ أَمْرُ اللَّه». حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ وَحَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ: “ {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} “، قَالَ: مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ، فَكَأَنَّمَا رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ قَرَأَ: “ {وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ} “. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَسَنِ بْنِ صَالِحٍ قَالَ: سَأَلْتُ لَيْثًا: هَلْ بَقِيَ أَحَدٌ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ؟ قَالَ: كَانَ مُجَاهِدٌ يَقُولُ: حَيْثُمَا يَأْتِي الْقُرْآنُ فَهُوَ دَاعٍ، وَهُوَ نَذِيرٌ. ثُمَّ قَرَأَ: “ {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ} “. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: “ {وَمَنْ بَلَغَ} “، مَنْ أَسْلَمِ مِنَ الْعَجَمِ وَغَيْرِهِمْ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ فِي قَوْلِهِ: “ {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} “، قَالَ: مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ، فَقَدْ أَبْلَغَهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: “ {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ} “، يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ “ وَمَنْ بَلَغَ “، يَعْنِي: وَمَنْ بَلَغَهُ هَذَا الْقُرْآنُ، فَهُوَ لَهُ نَذِيرٌ. حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ يُحَدِّثُ، لَا أَعْلَمُهُ إِلَّ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ: “ {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ} “، الْعَرَبَ “ وَمَنْ بَلَغَ “، الْعَجَمَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: “ {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} “، أَمَّا “ مَنْ بَلَغَ “، فَمَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ فَهُوَ لَهُ نَذِيرٌ. حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: “ {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} “، قَالَ يَقُولُ: مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ فَأَنَا نَذِيرُهُ. وَقَرَأَ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [سُورَةُ الْأَعْرَافِ: 158]. قَالَ: فَمَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ، فَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَذِيرُهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ: لِأُنْذِرَكُمْ بِالْقُرْآنِ، أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ، وَأُنْذِرَ مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ. فَ “ مَنْ “ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِوُقُوعِ “ أُنْذِرَ “ عَلَيْهِ، “ وَبَلَغَ “ فِي صِلَتِهِ، وَأُسْقِطَتِ “ الْهَاءُ “ الْعَائِدَةُ عَلَى “ مَنْ “ فِي قَوْلِهِ: “ بَلَغَ “، لِاسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ ذَلِكَ فِي صِلَاتِ “ مَنْ “ وَ“ مَا “ وَ“ الَّذِي “.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ، الْجَاحِدِينَ نُبُوَّتَكَ، الْعَادِلِينَ بِاللَّهِ، رَبًّا غَيْرَهُ: “ أَئِنَّكُمْ “، أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ “ {لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى} “، يَقُولُ: تَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَهُ مَعْبُودَاتٍ غَيْرَهُ مِنَ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ. وَقَالَ: “ أُخْرَى “، وَلَمْ يَقُلْ “ أُخَرَ “، وَ“ الْآلِهَةُ “ جَمْعٌ، لِأَنَّ الْجُمُوعَ يَلْحَقُهَا، التَّأْنِيثُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} [سُورَةُ طه: 51]، وَلَمْ يَقُلْ: “ الْأُوَلُ “ وَلَا “ الْأَوَّلِينَ “. ثُمَّ قَالَ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “ قُلْ “، يَا مُحَمَّدُ “ لَا أَشْهَدُ “، بِمَا تَشْهَدُونَ: أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى، بَلْ أَجْحَدُ ذَلِكَ وَأُنْكِرُهُ “ {قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} “، يَقُولُ: إِنَّمَا هُوَ مَعْبُودٌ وَاحِدٌ، لَا شَرِيكَ لَهُ فِيمَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى خَلْقِهِ مِنَ الْعِبَادَةِ “ {وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} “، يَقُولُ: قُلْ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ شَرِيكٍ تَدْعُونَهُ لِلَّهِ، وَتُضِيفُونَهُ إِلَى شَرِكَتِهِ، وَتَعْبُدُونَهُ مَعَهُ، لَا أَعْبُدُ سِوَى اللَّهِ شَيْئًا، وَلَا أَدْعُو غَيْرَهُ إِلَهًا. وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْيَهُودِ بِأَعْيَانِهِمْ، مِنْ وَجْهٍ لَمْ تَثْبُتْ صِحَّتُهُ، وَذَلِكَ مَا:- حَدَّثَنَا بِهِ هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ وَأَبُو كُرَيْبٍ قَالَا حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، «جَاءَ النَّحَّامُ بْنُ زَيْدٍ، وقردم بْنُ كَعْبٍ، وَبَحْرِيُّ بْنُ عُمَيْرٍ فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، مَا تَعْلَمُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا غَيْرَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، بِذَلِكَ بُعِثْتُ، وَإِلَى ذَلِكَ أَدْعُو! فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ وَفِي قَوْلِهِمْ: “ {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} “ إِلَى قَوْلِهِ: “ لَا يُؤْمِنُونَ “.»
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: الَّذِينَ “ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ “، التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ يَعْرِفُونَ أَنَمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ، لَا جَمَاعَةُ الْآلِهَةِ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا نَبِيٌ مَبْعُوثٌ “ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ “. وَقَوْلُهُ: “ {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} “، مِنْ نَعْتِ “ الَّذِينَ “ الْأُولَى. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: “ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ “، أَهْلَكُوهَا وَأَلْقَوْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ، بِإِنْكَارِهِمْ مُحَمَّدًا أَنَّهُ لِلَّهِ رَسُولٌ مُرْسَلٌ، وَهُمْ بِحَقِيقَةِ ذَلِكَ عَارِفُونَ “ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ “، يَقُولُ: فَهُمْ بِخَسَارَتِهِمْ بِذَلِكَ أَنْفُسَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مَعْنَى “ خَسَارَتِهِمْ أَنْفُسَهُمْ “، أَنَّ كُلَّ عَبْدٍ لَهُ مَنْزِلٌ فِي الْجَنَّةِ وَمَنْزِلٌ فِي النَّارِ. فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، جَعَلَ اللَّهُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ مَنَازِلَ أَهْلِ النَّارِ فِي الْجَنَّةِ، وَجَعَلَ لِأَهْلِ النَّارِ مَنَازِلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي النَّارِ، فَذَلِكَ خُسْرَانُ الْخَاسِرِينَ مِنْهُمْ، لِبَيْعِهِمْ مَنَازِلَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ بِمَنَازِلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنَ النَّارِ، بِمَا فَرَّطَ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ مَعْصِيَتِهِمُ اللَّهَ، وَظُلْمِهِمْ أَنْفُسَهُمْ، وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، [سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ: 11]. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: “ {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ} “ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: “ {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ} “، يَعْرِفُونَ أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ اللَّهِ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: “ {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ} “، النَّصَارَى وَالْيَهُودُ، يَعْرِفُونَ رَسُولَ اللَّهِ فِي كِتَابِهِمْ، كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: “ {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ} “، [يَعْنِي: النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ “، لِأَنَّ نَعْتَهُ مَعَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ]. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَوْلُهُ: “ {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ} “، يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: زَعَمَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِمَّنْ أَسْلَمَ، أَنَّهُمْ قَالُوا: وَاللَّهِ لَنَحْنُ أَعْرَفُ بِهِ مِنْ أَبْنَائِنَا، مِنْ أَجَلِ الصِّفَةِ وَالنَّعْتِ الَّذِي نَجِدُهُ فِي الْكِتَابِ، وَأَمَّا أَبْنَاؤُنَا فَلَا نَدْرِي مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ !
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمَنْ أَشَدُّ اعْتِدَاءً، وَأَخْطَأُ فِعْلًا وَأَخْطَأُ قَوْلًا “ {مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} “، يَعْنِي: مِمَّنِ اخْتَلَقَ عَلَى اللَّهِ قِيلَ بَاطِلٍ، وَاخْتَرَقَ مِنْ نَفْسِهِ عَلَيْهِ كَذِبًا، فَزَعَمَ أَنَّ لَهُ شَرِيكًا مِنْ خَلْقِهِ، وَإِلَهًا يُعْبَدُ مَنْ دُونِهِ- كَمَا قَالَهُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ- أَوْ ادَّعَى لَهُ وَلَدًا أَوْ صَاحِبَةً، كَمَا قَالَتْهُ النَّصَارَى “ أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ “، يَقُولُ: أَوْ كَذَّبَ بِحُجَجِهِ وَأَعْلَامِهِ وَأَدِلَّتِهِ الَّتِي أَعْطَاهَا رُسُلَهُ عَلَى حَقِيقَةِ نُبُوَّتِهِمْ، كَذَّبَتْ بِهَا الْيَهُودُ “ {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} “، يَقُولُ: إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْقَائِلُونَ عَلَى اللَّهِ الْبَاطِلَ، وَلَا يُدْرِكُونَ الْبَقَاءَ فِي الْجِنَانِ، وَالْمُفْتَرُونَ عَلَيْهِ الْكَذِبَ، وَالْجَاحِدُونَ بِنُبُوَّةِ أَنْبِيَائِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُفْتَرِينَ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا، وَالْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِهِ، لَا يُفْلِحُونَ الْيَوْمَ فِي الدُّنْيَا، وَلَا يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا- يَعْنِي: وَلَا فِي الْآخِرَةِ. فَفِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ قَدِ اسْتُغْنِيَ بِذِكْرِ مَا ظَهَرَ عَمَّا حُذِفَ. وَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي الدُّنْيَا، “ {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} “، فَقَوْلُهُ: “ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ “، مَرْدُودٌ عَلَى الْمُرَادِ فِي الْكَلَامِ. لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَحْذُوفًا مِنْهُ، فَكَأَنَّهُ فِيهِ، لِمَعْرِفَةِ السَّامِعِينَ بِمَعْنَاهُ “ {ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ} “، يَقُولُ: ثُمَّ نَقُولُ، إِذَا حَشَرْنَا هَؤُلَاءِ الْمُفْتَرِينَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ، بِادِّعَائِهِمْ لَهُ فِي سُلْطَانِهِ شَرِيكًا، وَالْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِهِ وَرُسُلِهِ، فَجَمَعْنَا جَمِيعَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ “ {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} “، أَنَّهُمْ لَكُمْ آلِهَةً مَنْ دُونِ اللَّهِ، افْتِرَاءً وَكَذِبًا، وَتَدْعُونَهُمْ مَنْ دُونِهِ أَرْبَابًا؟ فَأْتُوا بِهِمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ!
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ثُمَّ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُمْ إِذْ قُلْنَا لَهُمْ: “ {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} “؟ إِجَابَةً مِنْهُمْ لَنَا عَنْ سُؤَالِنَا إِيَّاهُمْ ذَلِكَ، إِذْ فَتَنَّاهُمْ فَاخْتَبَرْنَاهُمْ، “ {إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} “، كَذِبًا مِنْهُمْ فِي أَيْمَانِهِمْ عَلَى قِيلِهِمْ ذَلِكَ. ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ. فَقَرَأَتْهُ جَمَاعَةٌ مِنْ قَرَأَةِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَبَعْضِ الْكُوفِيِّينَ: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتَهُمْ} بِالتَّاءِ، بِالنَّصْبِ، بِمَعْنَى: لَمْ يَكُنِ اخْتَبَارَنَاهُمْ لَهُمْ إِلَّا قِيْلُهُمْ “ {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} “ غَيْرُ أَنَّهُمْ يَقْرَءُونَ “ تَكُنْ “ بِالتَّاءِ عَلَى التَّأْنِيثِ. وَإِنْ كَانَتْ لِلْقَوْلِ لَا لِلْفِتْنَةِ، لِمُجَاوَرَتِهِ الْفِتْنَةَ، وَهِيَ خَبَرٌ. وَذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ شَاذٌ غَيْرُ فَصِيحٍ فِي الْكَلَامِ. وَقَدْ رُوِيَ بَيْتٌ لِلَبِيْدٍ بِنَحْوِ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَمَضَى وَقَدَّمَهَا، وَكَانَتْ عَادَةً *** مِنْهُ إِذَا هِيَ عَرَّدَتْ إِقْدَامُهَا فَقَالَ: “ وَكَانَتْ “ بِتَأْنِيثِ “ الْإِقْدَامِ “، لِمُجَاوَرَتِهِ قَوْلَهُ: “ عَادَةً “. وَقَرَأَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ قُرَّاءِ الْكُوفِيِّينَ: (ثُمَّ لَمْ يَكُنْ) بِالْيَاءِ، (فِتْنَتَهُمْ) بِالنَّصْبِ، (إِلَّا أَنْ قَالُوا)، بِنَحْوِ الْمَعْنَى الَّذِي قَصَدَهُ الْآخَرُونَ الَّذِينَ ذَكَرْنَا قِرَاءَتَهُمْ، غَيْرُ أَنَّهُمْ ذَكَّرُوا “ يَكُونُ “ لِتَذْكِيرِ “ أَنَّ “. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ عِنْدَنَا أَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ بِالصَّوَابِ، لِأَنَّ “ أَنْ “ أَثْبَتُ فِي الْمَعْرِفَةِ مِنَ “ الْفِتْنَةِ “. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: “ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ “. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: ثُمَّ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ قَالَ، قَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: “ {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} “، قَالَ: مَقَالَتُهُمْ قَالَ مَعْمَرٌ: وَسَمِعْتُ غَيْرَ قَتَادَةَ يَقُولُ: مَعْذِرَتُهُمْ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: “ {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} “، قَالَ: قَوْلُهُمْ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: “ {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا} “، الْآيَةَ، فَهُوَ كَلَامُهُمْ “ {قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} “. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ، سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ الْفَضْلَ بْنَ خَالِدٍ يَقُولُ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ، سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ: “ {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} “، يَعْنِي: كَلَامَهُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: مَعْذِرَتُهُمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ وَابْنُ الْمُثَنَّى قَالَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ: “ {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} “، قَالَ: مَعْذِرَتُهُمْ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: “ {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} “، يَقُولُ: اعْتِذَارُهُمْ بِالْبَاطِلِ وَالْكَذِبِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: مَعْنَاهُ: ثُمَّ لَمْ يَكُنْ قِيْلُهُمْ عِنْدَ فِتْنَتِنَا إِيَّاهُمْ، اعْتِذَارًا مِمَّا سَلَفَ مِنْهُمْ مَنِ الشِّرْكِ بِاللَّهِ “ {إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} “، فَوَضَعَتِ “ الْفِتْنَةُ “ مَوْضِعَ “ الْقَوْلِ “، لِمَعْرِفَةِ السَّامِعِينَ مَعْنَى الْكَلَامِ. وَإِنَّمَا “ الْفِتْنَةُ “، الِاخْتِبَارُ وَالِابْتِلَاءُ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْجَوَابُ مِنَ الْقَوْمِ غَيْرَ وَاقِعٍ هُنَالِكَ إِلَّا عِنْدَ الِاخْتِبَارِ، وَضَعَتِ “ الْفِتْنَةُ “ الَّتِي هِيَ الِاخْتِبَارُ، مَوْضِعَ الْخَبَرِ عَنْ جَوَابِهِمْ وَمَعْذِرَتِهِمْ. وَاخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ أَيْضًا فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: “ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ “. فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قَرَأَةِ الْمَدِينَةِ وَبَعْضُ الْكُوفِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ: وَاللَّهِ رَبِّنَا، خَفْضًا، عَلَى أَنِ “ الرَّبَّ “ نَعْتٌ لِلَّهِ. وَقَرَأَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعَيْنِ: " وَاللَّهِ رَبَّنَا "، بِالنَّصْبِ، بِمَعْنَى: وَاللَّهُ يَا رَبَّنَا. وَهِيَ قِرَاءَةُ عَامَّةِ قَرَأَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ عِنْدِي بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: (وَاللَّهِ رَبَّنَا)، بِنَصْبِ “ الرَّبِّ “، بِمَعْنَى: يَا رَبَّنَا. وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا جَوَابٌ مِنَ الْمَسْئُولِينَ الْمَقُولُ لَهُمْ: “ {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} “؟ وَكَانَ مِنْ جَوَابِ الْقَوْمِ لِرَبِّهِمْ: وَاللَّهِ يَا رَبَّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ فَنَفَوْا أَنْ يَكُونُوا قَالُوا ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا. يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: " مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ "، مَا كُنَّا نَدْعُو لَكَ شَرِيكًا، وَلَا نَدْعُو سِوَاكَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {اُنْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اُنْظُرْ يَا مُحَمَّدُ، فَاعْلَمْ كَيْفَ كَذَبَ هَؤُلَاءِ اَلْمُشْرِكُونَ اَلْعَادِلُونَ بِرَبِّهِمُ اَلْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ فِي اَلْآخِرَةِ عِنْدَ لِقَاءِ اَللَّهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِقِيلِهِمْ: " {وَاَللَّهِ يَا رَبَّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} "، وَاسْتَعْمَلُوا هُنَالِكَ اَلْأَخْلَاقَ اَلَّتِي كَانُوا بِهَا يَتَخَلَّقُونَ فِي اَلدُّنْيَا مِنَ اَلْكَذِبِ وَالْفِرْيَةِ. وَمَعْنَى "اَلنَّظَر" فِي هَذَا اَلْمَوْضِعِ، اَلنَّظَرُ بِالْقَلْبِ، لَا اَلنَّظَرُ بِالْبَصَرِ. وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: تَبَيَّنَ فَاعْلَمْ كَيْفَ كَذَبُوا فِي اَلْآخِرَةِ. وَقَالَ: " كَذَبُوا "، وَمَعْنَاهُ: يَكْذِبُونَ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ اَلْخَبَرُ قَدْ مَضَى فِي اَلْآيَةِ قَبْلَهَا، صَارَ كَالشَّيْءِ اَلَّذِي قَدْ كَانَ وَوُجِدَ. " {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} "، يَقُولُ: وَفَارَقَهُمُ اَلْأَنْدَادُ وَالْأَصْنَامُ، وَتَبَرَّءُوا مِنْهَا، فَسَلَكُوا غَيْرَ سَبِيلِهَا، لِأَنَّهَا هَلَكَتْ، [وَأُعِيدَ اَلَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَهَا اِجْتِرَاءً]، ثُمَّ أُخِذُوا بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَهُ مِنْ قَيْلِهِمْ فِيهَا عَلَى اَللَّهِ، وَعِبَادَتِهِمْ إِيَّاهَا، وَإِشْرَاكِهِمْ إِيَّاهَا فِي سُلْطَانِ اَللَّهِ، فَضَّلَتْ عَنْهُمْ، وَعُوقِبَ عَابِدُوهَا بِفِرْيَتِهِمْ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى أَنَّ مَعْنَى " اَلضَّلَالِ "، اَلْأَخْذُ عَلَى غَيْرِ اَلْهُدَى. وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّ هَؤُلَاءِ اَلْمُشْرِكِينَ يَقُولُونَ هَذَا اَلْقَوْلَ عِنْدَ مُعَايَنَتِهِمْ سَعَةَ رَحْمَةِ اَللَّهِ يَوْمئِذٍ. ذِكْرُ اَلرِّوَايَةِ بِذَلِكَ: حَدَّثَنَا اِبْنُ حُمَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا حَكَّامٌ قَالَ حَدَّثَنَا عَمْرٌو، عَنْ مُطَرَّفٍ، عَنِ اَلْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: أَتَى رَجُلٌ اِبْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: سَمِعَتُ اَللَّهَ يَقُولُ: " {وَاَللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} "، وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: وَلَا يَكْتُمُونَ اَللَّهَ حَدِيثًا، [سُورَةُ اَلنِّسَاءِ: 42]؟ قَالَ اِبْنُ عَبَّاسٍ: أَمَّا قَوْلُهُ: " {وَاَللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} "، فَإِنَّهُ لَمَّا رَأَوْا أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ اَلْجَنَّةَ إِلَّا أَهْلُ اَلْإِسْلَامِ: قَالُوا: "تَعَالَوْا نَجْحَدُ "، فَقَالُوا: " {وَاَللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} "، فَخَتَمَ اَللَّهُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتَكَلَّمَتْ أَيْدِيهمْ وَأَرْجُلُهُمْ، " وَلَا يَكْتُمُونَ اَللَّهَ حَدِيثًا ". حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اَللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: " {وَاَللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} "، قَالَ: قَوْلُ أَهْلِ اَلشِّرْكِ حِينَ رَأَوُا اَلذُّنُوبَ تُغْفَرُ، وَلَا يَغْفِرُ اَللَّهُ لِمُشْرِكٍ " {اُنْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} "، بِتَكْذِيبِ اَللَّهِ إِيَّاهُمْ. حَدَّثَنِي اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، بِنَحْوِهِ. حَدَّثَنِي اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اَللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: " {وَاَللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} "، ثُمَّ قَالَ: {وَلَا يَكْتُمُونَ اَللَّهَ حَدِيثًا}، [سُورَةُ اَلنِّسَاءِ "]، بِجَوَارِحِهِمْ. حَدَّثَنَا اِبْنُ وَكِيعٍ، قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ حَمْزَةَ اَلزَّيَّاتِ، عَنْ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ هُشَامٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: " {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاَللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} "، قَالَ: حَلَفُوا وَاعْتَذَرُوا، قَالُوا: " وَاَللَّهِ رَبِّنَا ". حَدَّثَنِي اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عَقَبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ أَقْسَمُوا وَاعْتَذَرُوا: " وَاَللَّهِ رَبِّنَا ". حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ حَمْزَةَ اَلزَّيَّاتِ، عَنْ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ هُشَامٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، بِنَحْوِهِ. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ زِيَادٍ الْعُصْفُرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: " {وَاَللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} "، قَالَ: لَمَّا أَمَرَ بِإِخْرَاجِ رِجَالٍ مِنَ اَلنَّارِ مِنْ أَهْلِ اَلتَّوْحِيدِ، قَالَ مَنْ فِيهَا مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ: " تَعَالَوْا نَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ، لَعَلَّنَا نَخْرُجُ مَعَ هَؤُلَاءِ ". قَالَ: فَلَمْ يُصَدَّقُوا. قَالَ: فَحَلَفُوا: " {وَاَللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} ". قَالَ: فَقَالَ اَللَّهُ: " {اُنْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} ". حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: " {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} " أَيْ: يُشْرِكُونَ. حَدَّثَنِي اَلْحَارِثُ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اَلْعَزِيزِ قَالَ حَدَّثَنَا اَلْمِنْهَالُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: " {وَاَللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} "، قَالَ: لَمَّا رَأَى اَلْمُشْرِكُونَ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ اَلْجَنَّةَ إِلَّا مُسْلِمٌ، قَالُوا: تَعَالَوْا إِذَا سُئِلْنَا قُلْنَا: " {وَاَللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} ". فَسُئِلُوا، فَقَالُوا ذَلِكَ، فَخَتَمَ اَللَّهُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ، وَشَهِدَتْ عَلَيْهِمْ جَوَارِحُهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ، فَوَدَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ رَأَوْا ذَلِكَ: " {لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ اَلْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اَللَّهَ حَدِيثًا} ". حَدَّثَنِي اَلْحَارِثُ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اَلْعَزِيزِ قَالَ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ خَلَفٍ، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: يَأْتِي عَلَى اَلنَّاسِ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ سَاعَةٌ، لَمَّا رَأَى أَهْلُ اَلشِّرْكِ أَهْلَ اَلتَّوْحِيدِ يُغْفَرُ لَهُمْ فَيَقُولُونَ: " {وَاَللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} "، قَالَ: " {اُنْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} ". حَدَّثَنِي اَلْحَارِثُ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اَلْعَزِيزِ، قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ رَجُلٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: " {وَاَللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} "، يُخَفِّضُهَا. قَالَ: أَقْسَمُوا وَاعْتَذَرُو قَالَ اَلْحَارِثُ قَالَ عَبْدُ اَلْعَزِيزِ، قَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً أُخْرَى: حَدَّثَنِي هِشَامٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ.
|